ملتقى مديرية الزراعة في رفح

اسم المستخدم
كلمة المرور

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ملتقى مديرية الزراعة في رفح

اسم المستخدم
كلمة المرور

ملتقى مديرية الزراعة في رفح

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ملتقى مديرية الزراعة في رفح

للإتصال بنا : تلفاكس 082135044

۞ بسم الله الرحمن الرحيم (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )) (ق : 18) صدق الله العظيم

 أهلا وسهلا بكم في ملتقى مديرية الزراعة في رفح - أجمل الأوقات نتمناها لكم
نرحب بكل الزوار والاعضاء الذين انضموا لنا , ونتمنى لهم وقتا ممتعا ان شاء الله 

المواضيع الأخيرة

» نشرات زراعية قيمة حول زراعة بعض انواع الخضار .
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالإثنين فبراير 24, 2014 7:58 pm من طرف عبدالرحمن

» حالة الطقس اليوم فى مدينة رفح ***
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالثلاثاء سبتمبر 17, 2013 10:12 pm من طرف م.ابراهيم الجزار

» نشرات زراعية حول زراعة وانتاج بعض انواع اشجار الفاكهة
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 28, 2013 10:15 pm من طرف بانشير

» مجلة عالم الزراعة
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 13, 2012 9:20 pm من طرف أبوبراءة

» زراعة الخيار داخل البيوت البلاستيكية
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالخميس أغسطس 16, 2012 9:14 pm من طرف محمد العرجا

» بعض المشاكل التي تتعرض لها نباتات البندورة أثناء نموها
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالخميس يوليو 19, 2012 3:01 am من طرف جليل1

» نشرات زراعية حول تربية ورعاية الابقار والاغنام
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالأربعاء يونيو 27, 2012 7:28 am من طرف ابوالشاطر

» مجلة الزراعة الصادرة عن وزارة الزراعة والاصلاح السورية
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالخميس مارس 22, 2012 1:12 pm من طرف محمد العرجا

» البطاطا المسلوقة تمتص الدهون من الجسم
يوميات فتاة ليست عانس (1) I_icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 25, 2011 2:43 pm من طرف م.ابراهيم الجزار

التقويم

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 839 مساهمة في هذا المنتدى في 346 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 345 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو احمدعز فمرحباً به.

اذاعة اسلامية

 

 


    يوميات فتاة ليست عانس (1)

    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الأحد فبراير 21, 2010 3:10 am

    بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    من أدب المقاومة العراقية

    يوميات فتاة ليست عانس

    (1) سبع سنوات من الاحتلال، سبعمائة عام من العنوسة

    شبكة البصرة

    كلشان البياتي/ بغداد المحتلة

    اسمي ُسرى، ُسرى العانس، هكذا ينادوني أهل البلدة، من يبحث عني ويستفسر من سكان حي اليرموك الشهير في بغداد يحتاج أن يلصق العانس بإسمي لأني صرتُ اشتهر بالعنوسة أكثر من أي شيءٍ آخر. أنا لست عانس، وتاريخ ميلادي في العاشر من حزيران عام 1980 يمحي عني العنوسية ولا يشير إني عانس بالزمن فالعنوسة في مجتمعنا العربي تبدأ أحيانا بعد الأربعين من العمر وأنا لم ابلغ هذا الرقم لكن إحساسي بالعنوسة المبكرة هي التي قادتني إلى العنوسة.

    وأنا لست عانس بسبب مظهري الخارجي فأنا أجمل فتيات الحي وأكثر فتنة من فتيات الكرادة مريم وشارع فلسطين، وراغبة خاتون وبغداد الجديدة.... هادئة، محبوبة، اجتماعية، أنيقة، طويلة القامة، رشيقة الجسم، شعري اسود، طويل، يتدلى على كتفي، عيناي زرقاوان بلون السماء والبحر. ولست عانس لعيب خلقي أو عاهة مستديمة، باختصار جمالي الطبيعي كفيل بان يجذب نصف رجال الكرة الأرضية بما فيهم الملوك والكهنة والزعماء وأصحاب الشهادات والكفاءات العلمية النادرة وقادة الميدان من العسكر وحتى رعاة الغنم في البوادي.

    ليس مهماً أن اذكر لماذا صرتُ عانس وكيف طمست قدماي في بحر العنوسة..وأنا لست أول عانس، ربما أكون العانس رقم عشرة أو المائة أو المائة والخمسون وربما المائة بعد الإلف لكن لن أكون العانس الأخير في هذا العالم الممتلئ بالتناقض والأعاجيب. وليس مهماً أن أبين أن كانت العنوسة لاحقت بي من جراء نزوة شبابية أم إن مشيئة الرحمن هي التي أرادت أن أكون هذا الكائن البائس : نصفه ميت، ونصفه الآخر شبه حي، أم أن العنوسة حالة قيدت بي ولاصقت بأذيالي منذ أن درج اسمي في ذلك اللوح المحفوظ.. لقد أصبحت عانس وهذا يكفي وكل شي عداه لن يقدم ولن يؤخر..

    وإنا اليوم عانس وكل الذين حولي من البشر والكائنات الحية والأشباح والأطياف تتعامل معي على هذا الأساس.. كائن نفذ صلاحيته، وإذا كان الآخرون ينظرون لي نظرة أخرى لسبب ما في نفس يعقوب فأنا أرى نفسي في مرآة البيت ومرآة روحي عانس انتهى صلاحيته لبعض الشي أن لم اقل لكله.

    ومثل أي عانس،تعشعش فوقه الهموم والإحزان بسبب وبدونه، استفيق باكراً بعد ارق ليلٍ طويل، تخنقني العبرة واشعر أن العالم حولي مظلم كظلام الليل الشتاء الدامس، الإحساس باني عانس أحساس مرّ كفيل بان يسلب مني نعمتا النوم والراحة والسعادة.

    دبابات أمريكا، همراتها، مصفحاتها، راجمتها، أساطيلها، ناقلات جندها، عرباتها وهي تصول وتجول في شوارع بغداد –للمرة الأولى- كلابها المتوحشة وهي تلسع أجساد المعتقلين المقيدّ بالسلاسل، الرأس المعبأة داخل الكيس الأسود،جنودها المدججون بالأسلحة والرعب، صور انتهاكاتها في السجون، طائرتها التي ترمي الصواريخ على البيوت والعمارات، الجثث العفنة التي تلقى في الترع ومجاري المياه وساحات القمامة - كانت الشرارة الأولى التي أيقظت إحساسي بالعنوسة وولدت لديّ أحساس أزلي لم يفارقني -أحساس بأني ولدتُ عانس، وسأبقى عانس، أموت عانس، وابعث عانس.

    كلما وقعت عينٌ من عيناي على همرٍ يركل بعجلاته بلاط قلبي وإسفلت الشارع في مدينتي الآيلة للعنوسة _ يرسخّ الشعور وينميّ الإحساس في رأسي بأني عانس فعلاً وان التخفي خلف أوهام الشبابية لم يعد يجدي نفعاً.

    قبل الاحتلال، بعشرة أعوام، خمسة عشر عاماً، كان يفترض أن أصبح عانس وأعامل معاملة العانس لكني لسبب لازلت اجهله لم يحدث ذلك، لما لم اشعر بأني عانس وبأني فاقد الأهمية والجدوى والصلاحية في تلك السنوات التي كان الوطن محاصراً، معزولاً عن أصدقائه وجيرانه، ربما أن الأوطان هي التي تمنح صبياها وبناتها الشابات الإحساس بالعنوسة والإحساس بالشبابية والأنوثة. الوطن حين يحتل وتدوس أرضه بساطيل جنود المحتل هو فقط يولدّ الشعور بالعنوسة المبكرة... بعد هذا السيل من الأعوام، اجزم أن ستيفان ذلك الجندي الأميركي الأسود الذي كان ضمن تلك الشلة من الجنود الذين داهموا بيتنا في منتصف ليل شتاء ماطر بحثاً عن إرهابي اسمه حسون، صار عنده قناعة تامة بأنه إذا وقع في يد أي رجل عراقي فلا مفر من انه سيدفن حياً وسيحرق جسده بالتيزاب وبالبنزين الذي يجاهد سائقو العراق بالحصول عليه بعد أيام من المشقة والعناء في النوم على الكراسي الخلفية للسيارة أو مفترشين الشارع، وسيعلمُ ذلك ستيفان الشقي أن أسباب نقمة الرجل عليه لا تتوقف عند حدود احتلال وطن، وتدمير حياة ورغبات وأحلام.. اجزمُ أن ستيفان ذلك المرتزق الأميركي سيكون واثقاً من أن رؤيتهم في شوارع بغداد أنعشت الإحساس بالعنوسة وأفقدت امرأة مثلي كل رغباتها في الحياة والحب والشراكة والأنوثة.

    سبع سنوات من الاحتلال ولدتّ سبعمائة عاماً من الإحساس بالعنوسة والشلل وبالا جدوى وتلاشي الشعور بالحب والرغبة في الشراكة والارتباط..

    لن أعود شابة يتراكض خلفي الشباب، لقد قادني الإحساس بالعنوسة إلى العنوسة فعلاً فلم اعد أجدي نفعاً، وكل الإزهار التي سيفرشها ستيفان ورفاقه المحتلون دمي ودماء الآلاف من أمثالي لن يمحي عني ومن الشاعرات بالعنوسة -هذا الإحساس البشع، المميت..

    هل أدرك ستيفان المحتل ماذا يعني أن تراود امرأة مثلي إحساساً بأنها عانس وبأنها لن تكون موضع اهتمام من قبل أي رجل كلما وقعت عيناها على رؤيته وهو مدجج بالسلاح، ينهر ويصرخ ويزعق، محاط بالعشرات من الآليات المزودة بأحدث الأسلحة، يقتل ويستبيح وينتهك ويدمر الأحلام والرغبات والبنيان.

    مثل ورد يذبل في السنا دين المرصوصة في (طارمة) البيت وسياج الشرفات عطشاً، مثل أوراق أشجار النارنج والتين والعنب والبرتقال والتوت في حدائق بيوتنا – وهي تصفر وتذبل – جراء الإهمال ونقص العناية والماء والضوء –بعد أن ترك الناس بيوتها وهجرت أوطانها هرباً من الموت المحتوم المفروض على الرجال والصبيان، هرباً خوفاً من جحيم شعور بنات العائلة –بنتاً اثر بنت – بالعنوسة المحتومة.

    منذ سبع سنيين وباب منزلنا لم تطأ طاه قدما رجل، أوصده جنود الاحتلال بالمفتاح حينما أوصدوا باب قلبي وجعلوني عانس ُرغما عني. باب لا يقترب منها الرجال، باب موصدة، لا يفتحها احد، لا يطرقهٌا احد.

    العنوسة ليست وراثة في عائلتي، جدتي منال توفيت بعد عمر ناهز المائة وخمس سنوات وكانت تتمتع بصحة موفورة وظلت تشعر إنها شابة حتى اجتازت التسعين من عمرها.. والبنات في عائلتي تزوجن وهنّ في السن السادس عشر، وصرنّ أمهات وبعضهنّ أصبحن جدات..

    كانت الجدة سعدية وهي صديقة حميمة لجدتي وتصغرها بسنوات تردد دائماً أن الزوج الصالح هو الذي يحافظ على شبابية زوجته والمرأة لا تشعر بالكبر إلا حين تصادف رجلاً يريها نجوم الظهر في حياتها، وتقول أن المرأة لا تكبر لكنها لن ُتعنس أو تشعر بالعنوسة..فهما بلغت من العمر ستجد من يقطفها من العنوسة وتكون زهرة قلب أي رجل.. ماتت الجدة سعدية قبل الاحتلال بأيام وكانت لا تشكو من أي مرض عضّال لحظة وفاتها لكن الأطباء قالوا أن قلبها توقف فجأة بسبب صدمة عصبية قوية لم يمهلها.. ولم يبحث الطبيب الذي عاينها عن سبب الوفاة لقد كان مدركاّ أن الجدة سعدية أصيبت بصدمة عصبية وهي تشاهد ارتال الدبابات تزحف باتجاه بغداد في مشهد لم تألفهٌ من قبل.

    يقطع العم سعيد البقال الطريق إثناء مروري من أمام محل البقالة ويمازحني أن كان هناك خاطب ما في الطريق ويعرض إمامي مواصفات لشاب عازب يرغب بالزواج فأكون مرشحته وعندما يلقي رفضاً من قبلي يشاركني في اللعنة على أمريكا وقواتها المدججة بالسلاح والتي مرغتّ مشاعرنا في العنوسة فلم تعد الفتاة منّا تفكر في الزواج وأصبحت أمنية الشاب قضاء ليلة في منزله دون الإحساس بالخوف من مداهمة ليلية قد تفضي به إلى الاعتقال فيقضي سنوات شبابه خلف الأسلاك الشائكة والقضبان التي تورث الغمّ والإحباط والشيخوخة.

    يتسأل راسم كيف تفقد فتاة جميلة فاتنة كل رغباتها في الحياة وتشعر إنها عانس لمجرد أن تلمح رتلاً اميركياً يجتاز الشارع العام لكن راسم يغير رائيه وقناعاته عندما تنفجر سيارة ملغومة بالقرب من سوقه التجاري فتقتل العشرات من النساء والأطفال الأبرياء ويرى بركة الدم أمام عينيه ويلمح أشلاء أجساد هنا وهناك، كف هنا، أصابع هناك، رأس هناك، جسد بلا رأس هناك....

    يغلق راسم السوق التجاري الذي يعتاش عليه ويأخذ أسرته ويهاجر إلى السويد، يحثني على الهجرة و يكتب أنقذي شبابك من الضياع، ستصلين مرحلة العنوسة بالفعل وستكونيين عانس غير مرغوب فيها بتاتاً، تعالي وسأجد لك هنا (شايب) يرضى أن يتزوج من عانس.

    وجهي خالي من التجاعيد وبشرتي صافية صفاء سماء بغداد قبل أن تنفث فيه المروحيات الأميركية المقاتلة سمومها طيلة سبع سنوات من التحليق.. نقية نقاء نهر دجلة قبل أن تعكرها أشلاء الذين تغدر بهم المليشيات وترميهم في قعر دجلة بعد أن تنال الهروات والكيبلات من أجسادهم وتشبعهم تعذيباً..حين أقف قبال المرايا المنتشرة في إرجاء الغرف، مرآة في كل غرفة، وصالة، والحمامات الداخلية والخارجية، هذه المرايا التي علقتها أمي على الجدران وجعلت أبوابا البيت ونوافذها مرايا تنبهني أن العمر يمضي والعنوسة تنتظرني قاب قوسين وأدنى أن لم الحق بالقافلة والتقط منها الظل والشريك والنصف الآخر والشر الذي لابد منه حسب رأي أمي في أبي بعد زواج دام ثلاثون عاماً أسفر عن إنجاب أربعة أولاد وخمس من البنات تزوجنّ وأنجبن صبية وصبيان.



    كلشان البياتي/كاتبة وصحفية عراقية

    بغداد المحتلة/العانسة

    24 آب 2009

    شبكة البصرة

    الاحد 1 شوال 1430 / 20 أيلول 2009

    يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الأحد فبراير 21, 2010 3:11 am

    بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    من أدب المقاومة

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

    2 - العنوسة تنخر قلبي من الداخل

    شبكة البصرة

    كلشان البياتي

    نهاية الشهر، يستدعيني محاسب الدائرة لأتقاضى الراتب بعد أن يُنهي توزيع رواتب جميع المنتسبين الذين احتشدوا في غرفته على شكل طابور طويل عريض تكون الابتسامات قد علت وجوههم وأنارت غرفة المحاسب المقطوع عنها الكهرباء.



    يسألني في كل مرة عن سر عدم تلهفي على استلام الراتب فأجيبهُ بأني عانس، وأنّ الراتب مصيره في الجيب أن تقدم أو تأخر فلن يضرني متى ما استلمه لكن أم سيف صديقتي في الغرفة تلحُ وتلجّ بقوة لاستلامه، وتسحبني من يدي بقوة لنذهب إلى المحلات الكمالية القريبة من الدائرة لنسدد ما علينا من ديون متراكمة، ونقتني سلعا جديدة من إكسسوارات وأصباغ شعر ومكياج وجه وملابس يقول عنها صاحب المحل بأنها آخر صيحات الموضة.



    أعودُ إلى البيت وأحشرُ الأكياس في الخزانة لأتأملها في وقت لاحق، ارتدي أحياناً بعض ما اقتنيتهُ، وأحياناً أخرى أهب بعضها لجارتي فضيلة التي قتل زوجها بعد انفجار سيارة ملغومة قرب المخبز الذي يعمل فيه وترك لها ثلاث بنات، وصبيا لا يتجاوز التاسعة من العمر.



    البنات في سن المراهقة اعتدن على دلال الأب وحنانه لكن الموت قطفه من شجرة حياتهنّ فأصبحن أيتاما يشعرن بالنقص، وفضيلة تشعرُ بالعجز ومصابة بالشلل بعد رحيل وفاة الأب فلم يعد بإمكانها تدليل البنات كما كان يفعل زوجها، والمال القليل الذي تتقاضاه عن أجرتها في صنع الخبز داخل البيت لبعض الأسر من المحلة التي تسكن فيها يكاد يسد رمق الأسرة من الطعام والشراب.



    أحياناً أهبُ الأكياس جميعها لفضيلة ولاسيما حين تطغي فكرة إني عانس على رأسي، وبأن قميصا جديدا أو تنورة مزركشة أو حذاء بكعب عال لن يمحي من قلبي هذا الإحساس القاتل ولاسيما أن هناك من ينعشه دائماً: رتل أميركي يجتاز الشارع وإنا ذاهبة إلى الدائرة، رتل أميركي يقف أمام نافذة غرفتي الٌمطلة على الشارع العام، رتل واقف في الطريق وإنا عائدة إلى البيت، جندي، ثلة من الجنود يتمشون في الطرقات وإنا ذاهبة إلى السوق، يتماثلون أمام عيني وأنا نائمة، يتسكعون في مخيلتي ليل نهار، أحياء أموات.



    تنصحني أمي أن اقرأ المعوذات كلما يحضرون في مخيلتي، ولتجنب أذاهم أرتلُ بصوت مسموع {وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدأ فأغشيناهم فهم لا يبصرون}.



    يكرر عادل طلبه مجدداً ويحاول أن يرشي خالتي وداد التي وعدته بالتأثير على تغيير قناعاتي بعد أن توضح له أني لازلت شابة، ولم أبلغ مرحلة العنوسة، وشعوري بالعنوسية شعور طارئ وليد مرحلة الاحتلال ستزول بزوالها.



    تجاهد خالتي وداد في إقناعي بأن عادل مقاول ثري ينام على كنز من بيوت وأرصدة في البنوك وسيارات حديثة إنتاج 2009. وعادل شاب وسيم مثار إعجاب كل فتاة وتدمدم مع نفسها: لو كانت لي ابنة لما ترددت في تزويجها من مقاول ثري.



    أدير ظهري لخالتي وأتركها دون أن تتم حديثها، تغادر بعد أن تؤثر في قناعات والداتي وتجعلها تنقلب وتتخذ موقفاً متشنجاً ضدي. ولم تتوقف عند هذا الحد أسمعها تحرِّض أمي ضدي قائلة لها: ابنتك مسحورة، هناك من عمل لها سحراً وعمل هوة بينها وبين الرجال.



    امرأة مثل أمي ومثل خالتي وداد لن تصدق أن إحساسي بالعنوسة إحساس طبيعي ولِد تلقائياً دون أن يتدخل فيه ساحر أو مشعوذ، بل أن كل سحرة العالم ودجاليها ومشعوذيها لو اجتمعوا معاً لما تمكنوا من التأثير في قناعاتي، فأنا مثل كل نساء الأرض أقدس الحب، فالحب عندي ضرورة حياتية لا يمكن التنازل عنها، وأنا مثل أي فتاة أرسم ملامح فارس يمتطي جواده أراه في أحلامي ويهيمن على مخيلتي وقبل الاحتلال كانت مخيلتي تحمل ملامح لأكثر من فارس: هذا وسيم، وذاك رجل أنيق، والآخر ذو شخصية قوية يجذب أية فتاة، لكن اليوم والاحتلال ببشاعته غيرّ نظرتي فلم أعد تلك الفتاة الحالمة الرومانسية التي تنظر للجمال بمنظار خاص.

    الاحتلال جعلني أشعرُ بأني مثل شجرة هرمة شاخت فاصفرَّت أوراقها وتعرت من الحياة. أين لخالتي وداد أن تصدق بأن رؤية رتل أميركي تتقدم السيارات وهي تسير ببطء أحيانا وتقطع الطريق ساعات أحيانا أخرى يجعل امرأة مثلي تفقد رغباتها في الحياة وليس في الحب والارتباط، وتشعر بأنها عانس وبأنها عجوز ناهز عمرها الألف وليس المائة سنة.

    تجلس أمي للصلاة اختلس إليها النظر واسترق السمع ويصل صوت دعائها وصلواتها إلى إذني: اللهم ابعد عنها العنوسة، وابعث لها رجلاً يسعدها ويخطف روحها، اللهم لا تحرمها من الحب ولا من المودة، وهيأ لها الفارس الذي تتمنى.



    اقترب منها خطوات واقتحم عليها الخلوة واقبِّل رأسها أقول لها اطلبي يا أمي أن يخرج المحتل من بلدنا وتنسحب الأرتال وعندها سيزول عني الإحساس بالشيخوخة والعنوسة، وستجدين أمامك سُرى المنفتحة للحياة والحب والزواج، سُرى المرحة التي تصرع الأحزان وتقاومها.



    تأخر عاصي في العودة إلى البيت، وبدأ القلق يساور أمي، تطلب من شقيقتي سهاد أن تتصل به على الجوال فتقول إن جواله مغلق، أحاول الاتصال به بنفسي دون جدوى، اخفق في إقناع أمي بأن الطرق في بغداد لم تعد سهلة وخالية من السيارات. أقدم لها احتمالات وفرضيات عدة، ربما عاصي لا يزال في الطريق، وهناك رتل أميركي قد توقف فجأة ومنع اجتياز السيارات أو ربما هناك عبوة ناسفة انفجرت وقطعت الطريق، ربما سيارة عاصي أصيبت بعطل، ربما ذهب عاصي إلى بيت صديق وتأخر لكن تبدي مخاوف من تعرضه لمحاولة اختطاف وتسليب، وتحديداً بعد إنصاتها لتقرير عن حوادث اختطاف آخرها اختطاف رجل وزجته في منطقة المنصور نقلته أكثر من قناة فضائية.



    بعد ساعات انتظار مملة قاسية، يطرق عاصي الباب وهو متذمر يلعن الاحتلال ويشتم المسؤولين. ومثلما توقعت، رتل أميركي توقف في الطريق ومنع السيارات من اجتيازها وعلى أثرها تم التشويش على أجهزة الاتصالات.



    تتلقى أمي اتصالاً هاتفياً من زوجة عمي نادر تدعوها لعقد قرآن ابنتها سهام على ابن الجيران ساجد، تشب نار الغيرة في قلب أمي، وأرى شرارة الحسد تتطاير من عيينها. نصف بنات القبيلة تزوجنّ وصرن أمهات إلا أنا سأموت دون أن ألاعب حفيداً.

    أغرس عيني في الفيلم العربي الذي تعرضه قناة الأفلام الفضائية، وتأخذ فاتن حمامة بمخيلتي بعيداً عن تعليقات أمي التي توجه لي دون سائر البنات. تداعبها شقيقتي بشرى التي تصغرني بسنوات: العريس القادم سيكون من نصيبي، اتركي سُرى تعنسّ براحتها، تنهرها أمي فتغادر الغرفة، وهي تدمدم مع نفسها.



    تزجرني أمي وأنا أغادر البيت إلى الدائرة وتنصحني أن آخذ أجازة زمنية، وأعود باكراً إلى البيت، يجب أن نحضر قبل حضور الضيوف. أغادر البيت وقبل أن أصل إلى الدائرة تتصل بي مجدداً: تأجلت الخطبة، خطيب سهام أصيب بساقه، بعد أن انفجرت عبوة ناسفة في الشارع الذي كان يقود فيه سيارته متجهاً إلى المدرسة التي يدرس فيها، اتصلُ على جوال ابنة عمي سهام، فأجدُ جوالها مغلقا وزوجة عمي لا ترد على جوالها.



    العنوسة تنخرُ قلبي من الداخل، تتآكلٌ أحشائي من الألم، وروحي تصدأ يوماً بعد يوم.



    كلشان البياتي ـ بغداد المحتلة ـ 25 سبتمبر/أيلول 2009

    كاتبة وصحفية عراقية

    Golshanalbayaty2005@yahoo.com

    شبكة البصرة

    الاثنين 9 شوال 1430 / 28 أيلول 2009

    يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الثلاثاء فبراير 23, 2010 6:39 am

    بقلم: كلشان البياتي

    احتمالان أحدهما لا يلغي الآخر، فإما أن والداتي شغوفة باقتناء المرايا وتستهويها زيادة أعدادها في البيت، وإما إني صرت أتحسسٌ من وجود ما يؤكد لي عنوسيتي، إنا اشعر بالعنوسة وهو شعور يصاحبني ليل نهار، فلا أحتاج إلى مرايا تنبهني أو تلميحات توقظني: أن العمر يمضي بشكل متسارع وعليّ أن ألحق القطار حتى قبل أن يجتاز المحطة الأخيرة.
    أدرك حجم خطر العنوسة المحدق بي، لكني فاقدة الحيلة، الرجال يتسربلون من حولي ويتناثرون إلى مصائر مجهولة. هذا يقضي عقوبة الإرهاب في المعتقل، والآخر يلقي حتفه نتيجة الإرهاب، ورجل يختفي بسبب الإرهاب. ويذوب في قعر الكأس.
    اقتنت أمي مرآة طويلة وزينت بها المدخل المؤدي إلى صالتي الاستقبال والجلوس وهي المرآة الرابعة من النوع الكبير وتعد المرآة العاشرة المتوزعة على الأماكن الرئيسية في البيت، صالة الاستقبال والجلوس وغرفتي وغرفة أمي التي أدخل إليها من أجل التنظيف وغرفة شقيقتي دنيا التي اعتادت على النوم وإنا مستلقية بجوارها أحكي لها حكايات الشاطر حسن والسندباد البحري والأميرة سندريلا ومغامرات توم مع جيري. وغرفة دنيا لوحدها تحوي مرآتين متوسطي الحجم.
    ذهبت أمي ونسوة الحي لتقديم العزاء إلى ساجدة وأخواتها إيمان وقدرية لوفاة والداتهنّ بعد عمر ناهز الخامسة والثمانين. وساجدة أكبر إخوتها وأخواتها جاوز عمرها الخمسين سنة، بقيت عزباء وصارت عانسا قبل خمسة عشر عاماً وأخواتها إيمان وقدرية عازبات أيضا وعانسات. قدرية أنهت المرحلة الثانوية وتوظفت في مديرية التربية لكن ساجدة وإيمان ربات بيوت لم ينهين تعليمهن.
    ساجدة تبكي بمرارة وإيمان تنتحب بحرقة، قالت ساجدة لأمي: أصبحن مثل الطير مكسور الجناح. اليوم بعد وفاة والدتي أشعرُ إني عانس بالفعل، عندما تموت الأمهات وتحتل الأوطان تشعر البنت منّا إنها عانس بالفعل، وتستيقظ لديها الحواس النائمة وتنتعش الشعور بوجود الشريك الآخر.
    تنتحب إيمان وتقول: لقد كانت رحمة الله عليها شجرة وارفة الظلال نستظل تحتها وتقينا من شرور العنوسة. الإخوة علي وجاسم وسرمد متزوجون ويسكنون في بيوت مستقلة. تكتم ساجدة حزنها ولوعتها في قلبها وتحسس الآخرين إنها قوية وصلدة مثل الحديد لكنها أباحت بسرها إلى جارتنا فوزية وأسرت إنها مهزوزة وتشعر إنها بحاجة إلى من تستظل تحت جناحيه، تمصمص أصابع كفها ندماً إصبعاً بعد أصبع. وتردد دائماً: ظل رجل ولا ظل حيط!
    يلوح لها سامي ابن الجيران في الخيال وتسترد صوته في رأسها: أريدك على سنة الله ورسوله ، فكري في الأمر. لم تفكر فرأسها يومها كان محشواً بفكرة واحدة أن كريم الابن العم سيتزوج من ابنة العم ساجدة، ابنة العم لابن العم. هذا الناموس الأزلي الذي حطمّ حياتها وجعلها عانسا طوال حياتها. أما كريم فقد أصبح جداً لخمسة أحفاد وحفيدات أربع.
    يهاتفني راسم من السويد والعبرة تخنق صوته، اسأله إن كان فيروس أنفلونزا الإرهاب الموجود عندنا قد انتقل إلى السويد وجعل رجلاً مثل راسم يشهقُ بكاءً، يقول إن شقيقه مهند استشهد صباح اليوم. جندي أميركي أطلق عليه الرصاص فأردوهُ قتيلاً.
    اسأل كيف وصل الجندي الأميركي لمهند فيبادرني راسم بالسؤال لا أعرف عنك ساذجة يا سُرى. هل بقي مكان في العراق لم يقتحمه الجندي الأميركي، مهند طالب في كلية الهندسة، خرج باكراً إلى كليته فتلقى رصاصة الجندي أميركي في صدره عندما كان يقود سيارته متجهاً نحو الجامعة. كان مهند يدير السوق التجاري مع شقيقه راسم قبل أن يهاجر إلى السويد متناوباً مع شقيقهم الآخر حيدر. يبكي راسم بحرقة ويقول لن أتمكن من تشييع مهند ولن أتمكن من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه.
    مرّ كلام راسم من أذن وخرج من الآخر، وظل قلبي صامداً لم يهتز، العشرات مثل مهند يموتون اليوم في بغداد. أحتاج إلى عين تذرف الدمع لكل شهيد ومعتقل ومفقود ومصاب إصابات بالغة. لا أذكر من أخبرني وغرس في رأسي أن العانسات وبسبب فقدانهن للأمل في الزواج يصبحن باكيات ونائحات ويتعلمن فنون اللطم على أتفه الأمور.

    كلشان البياتي
    كاتبة وصحفية عراقية
    27 سبتمبر/أيلول 2009

    Golshanalbayaty2005@yahoo.com
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الثلاثاء فبراير 23, 2010 6:40 am

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (4)


    ميدل ايست اونلاين
    بقلم: كلشان البياتي
    المحاربون القدامى كانوا حين يؤونا إلى الفراش يخفون مسدساتهم تحت الوسادة، والفرسان النبلاء أيام غزوات السيف والحربة كانوا يضعون حربة وسيفا تحت الوسادة وينامون وهم متحزمون استعداداً لمواجهة طارئ الليل ممن لا تحمد عقباه.
    عاد مبدأ استعد لمواجهة طوارئ الليل بالظهور في حياتنا. اشعر اليوم أني مثل ذلك الشرطي الذي يستعصي عليه النوم إن لم يكن المسدس مربوطًا على يمينه.
    أنام وعيناي شبه منفتحتين، عباءة سوداء وبرقع أسود يوجدان قرب الوسادة دائماً، أرتدي قميصا بأكمام طويلة ولون غامق، وأتجنب ألا يكون القميص قصيراً وضيقاً.
    عشرات من قمصان النوم ذات الأكمام القصيرة والمتوسطة كانت مركونة في الخزانة قبل أن أجري تعديلاً عليها إذ قمت بنقل محتوياتها إلى حقائب كي لا تكون أمام أنظار الجنود وهم يقتحمون البيوت خلسةٍ.
    أشعر باشمئزاز حين أتخيل أن جنديا أميركيا يلقي نظرة على قمصاني وهو يبعثر محتوياتها بحجة البحث عن أسلحة فتاكة. لا أستبعد بتاتاً أن يتحجج الجنود بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل في خزانتي الشخصية فيلامس أياديهم القذرة قميصاً لم أرتديه وآخر أحمل فيه ذكرى عطرة لليل باسم جميل معطر بأريج الحب، كنت أشعر بنشوة حين أرتديه.
    قمصان للنوم وأخرى ارتديها في الأماسي الحلوة، وأنا داخل البيت أسقي الخزامي والفل وأشجار النبك والرارنج وعشب الحديقة المائل للإصفرار نتيجة الانقطاع الدائم للماء عنها. وقمصان ارتديت معظمها في سنوات الهدوء، وحين كنا ننام فوق أسطح منازلنا ببغداد بمنتهى الحرية، وعندما كنا نترك أبواب البيوت ونوافذها مشرعة على مصراعيها، ننعم بزقزقة العصافير في الصباح لا بأزيز الطائرات الأميركية المسّيرة، كانت حواسنا لا تجرؤ أن تتخيل حرامي يفكر أن يقتحم البيت.
    اليوم وبعد زوال سنين الأمان والهدوء لن نخلد إلى النوم، أنا والحاجة نسمة والداتي، الليل يبدأ بنقاش وينتهي بجدال حاد، تغضب تارة وأغضب تارة.
    تقول لي صرتِ مثل الشرطي في البيت، تنهين وتأمرين وتوزعين مواعظ. وصرتِ مثل قطة شرسة تهيئ مخالبها للانقضاض، امنعها من نزع غطاء رأسها أثناء النوم، لا تكوني حاسرة الرأس يا حاجة حتى وأنتِ في غرفة منامك.
    غرفنا لم تعد آمنة. بيوتنا مسارح مفتوحة انتهكت حرماتها. ماذا نفعل لو رفس الجندي الأميركي باب البيت بقدميه في وقت متأخر من الليل، أو حتى في هجير القيلولة. لن تجرؤ وهي عجوز يربو عمرها على السبعين أن تبحث عن حجاب تستر بها رأسها والكهرباء حتما تكون مقطوعة.
    أقول يا أمي الحذر واجب، لا تستبعدي اقتحام البيت من قبل جنود مدججين بالسلاح، لن يكون بمقدورك إنقاذ الموقف لأنهم سيدخلون بأسرع مما تتصورين. سيفتحون الباب بقنبلة صوتية صوتها يكفي لإحدث بلبلة في كل إرجاء البيت. قد تغمى عليها أو تغمى على إحدى الفتيات فتقع على الأرض فيتهشم رأسها.
    تسألني وماذا يفعل الجنود المدججون بالسلاح عندنا، نحن أناس مسالمون. أقول جارة صديقتي رباب في العمل كانوا أناسا مسالمين أيضا. في الهزيع الأخير من الليل وهم نيام، اقتحم الجنود الأميركان غرفة نوم العم خالد والد رباب، ولم يشعر إلا والجندي الأميركي يصوبُ بندقيته على رأسه ويصرخ به (wake up)، تعوذت أم رباب من الإبليس وكانت حاسرة الرأس، لم تتمكن من لملمة شعرها المنفوش. قيدوا العم سعيد وحجزوا النساء في غرفة سعد واقتادوا معهم رؤوف وكمال ومنذر الذي يبلغ الاثنى عشر من العمر واعتقلوا سيف زوج خالة رباب وهو ضيف جاء من الناصرية ليقضي عملاً في بغداد ونزل ضيفاً عند قريبه سعيد. تغمغم أمي أعوذ بالله، ياستار استرنا من (تاليه).
    نبيلة زوجة شقيقي عاصي أصبحت شبه ناقمة عليّ وانضمت إلى سرب الحاجة نسمة وخالتي وداد، اسمعها تُناجي الله وتدعوها أن يبعث لي رجلاً فتخلص هي والآخرين من تدخلاتي السافرة في شؤون الآخرين.
    العانس مثل عجوز البيت تدسّ أنفها في كل شيء. تعتقد إني حرضتّ زوجها عاصي عليها فمنعها من ارتداء (بديات ضيقة) في البيت وطالبها بارتداء ملابس محتشمة حتى وإن كانت الأبواب موصودة على مصراعيها، ولأني فرضت ذلك على شقيقتي هدى، تتصور إني فعلت ذلك بالتأثير على زوجها. لا تصدق أن عاصي تغير مثلي وصار يخشى أن نتعرض لما تتعرض له أسر عراقية كثيرة.
    سامي صديق عاصي تعرض إلى دهم مفاجئ من قبل قوات أميركية في الساعة العاشرة ليلاً. يقول سامي: كنا اجتمعنا لتناول العشاء ولم أجد إلا جنودا أميركيين دخلوا البيت بعد انفجار قتبلة صوتية توقعتها على الشارع العام وليس على باب بيتي.
    وحكى لعاصي كيف تم تقييد يديه ووضع الكيس الأسود في رأسه ورأس والداه وشقيقيه فاضل وصهيب. ثم اقتادوا فاضل وصهيب وتخلوا عن اعتقاله واعتقال والداه بسبب مرضه. يقول سامي لم آبه لاعتقال شقيقيَّ ولا حتى لما فعلوه من تدمير أثاث المنزل وتكسير التحفيات النادرة التي جلبها أبي إثناء رحلاته إلى خارج العراق لكني تألمت لدخولهم المفاجئ والنسوة كنا حاسرات الرأس ويرتدين جلابيات البيت.
    تخلى عاصي عن البقاء بالملابس الداخلية أثناء وجوده في البيت ولاسيما في موسم صيف بغداد الحار وهو عادة احتفظ بها منذ أيام العزوبية، كانت أمي تنهاه على الدوام وتنصحهُ بالتخلي عن هذه العادة السيئة لكنه كان عاصياً لكلامها إلى أن جاء الاحتلال وخشي مثلي ومثل الكثير من العراقيين من حملة الدهم واقتحام البيوت بشكل فجائي.
    كنت اهدأ والداتي وأقول لها اتركيه سيقع في شر أعماله، إن دخل الجنود الأميركان إلى المنزل سيقتادوه (بالفانيلة والسروال) إلى الهمر ويكون أضحوكة للعالم أجمع، وسيكون المشهد أجمل حين يتم تصويره وعرضه في الفضائيات ويراه القاصي والداني في الأرض المعمورة.
    أرافق أمي إلى بيت ساجدة وأخواتها إيمان وقدرية لمواساتهن في وفاة والداتهنّ وأجد الدموع قد تطايرت من عيني ساجدة ووجدت إيمان شاردة والحزن طافح في ملامحها.
    قالت ساجدة لأمي: مصيبة سعد ابن عمي طغت على فجيعتنا برحيل أمي. اختفى سعد منذ ثلاثة أيام والشباب منشغلين بالبحث عنه. قالت أمي كيف اختفى هل هو طفل. ردت ساجدة: خرج صباحاً كدأبه لفتح محله في الحي الصناعي واختفى. أصحاب المحلات قالوا إنه لم يصل لمحله ذلك اليوم. ونقَّاله يؤشر خارج نطاق الخدمة بعد نصف ساعة من مغادرته البيت.
    تحولت الجلسة إلى مناقشة كيفية اختفاء سعد وكيفية إيجاده مع مداخلات جانبية عن أوضاع بغداد بعد الاحتلال والخارج الذي أصبح لا يعود.
    قالت أمي لساجدة حين حاولت أن تتظاهر بالبكاء على والداتها: يا بنية احمدي الله أن والداتك توفت بعد أن بلغت من الكبر عتياً، لقد انقضى أجلها ولكل أجل كتاب. ماذا نقول للشباب الذين يموتون وهم في ريعان الشباب أو الذين يقتلون وتلقى جثثهم في الترع والأنهار وتضيع جثثهم. هناك أسر لا تحصل حتى على جثث أبنائها.
    يتصل علي شقيق ساجدة ويخبرها أن تستعد هي وإيمان وقدرية فسيمر ويأخذهم إلى منزل سعد لقد عثروا على جثته في مشرحة الطب العدلي ببغداد وعليه آثار إطلاقات نارية في الرأس ومنطقة الصدر وملامح وجهه مشوه تماماً. تصرخ ساجدة وتولول باسم العمة سبأ والدة سعد (فجعتي ياعمة).

    كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
    بغداد المحتلة / العانس
    29 سبتمبر/أيلول 2009

    Golshanalbayaty2005@yahoo.com
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الثلاثاء فبراير 23, 2010 11:39 pm

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (5)


    ميدل ايست اونلاين
    بقلم: كلشان البياتي

    في منتصف الليل، خُيلّ لي أن حبات المطر هي التي تنقر زجاج نافذة الغرفة. ولأن ليالي بغداد لم تعد ساكنة، وهادئة بسبب سيارات الشرطة وآليات القوات الأميركية التي لا تهدأ؛ ولأن مواء قطط البيت تشبه أبواق سيارة الشرطة وانفجار قنبلة أو قذيفة هاوون، صحوتُ وأنا غير منبهرة بالمطر، ولم يشدني كما كان يفعل في السابق، استقبلته ببرود وجفاء كعهدي مع كل الأشياء.
    عندما كانت بغدادُ حرة، كنتُ شاعرية جداً، ورومانسية، حالمة، أنام وأصحو على نقرات حبات المطر. اليوم مشاعري قفر، وعقم، لا يشدني شيء، ولا يبهرني شي. لقد قتل الاحتلال إحساسي بجمال الأشياء فلم أعد تلك البنت الرقيقة، التي تنبهر لكل ما هو جميل في الحياة.
    للمطر رائحةُ منعشة تقتحم أنفي قبل هطوله بساعات. لا شيء اليوم في الكون يبهرني حتى السحب السوداء التي كنت احتفل بقدومها إلى سماء بغداد. المطر والسحب والظلال كانوا يمنحونني إحساساً بالدفء والنشوة، والمطر قديماً حين كان يهطل كان يعيد تكويني من جديد، طفلة شقية تلهو بمرح تحت المطر، تمسك حباته بأناملها. صورة سيارة تجتاز منطقة ظلال تشكلها كومة أشجار الفل وسعفات النخيل وشجيرات الأس المزروعة على الجزرات الوسطية وفيروز الصباح تصدح بصوتها الناعس المفعم بالأنوثة والرقة، لا تزال مترسخة في ذهني.
    المطر عانس مثل روحي، ذابل مثل جسدي، لم يعد يبهرني ويمنحني الدفء والحياة. تلاشى انبهاري به وأصبح المطر مثل كل شيء في بغداد: مقفر لا يوحي إلى شيء، يأتي سنة عانسا وسنة يحتجب عن الهطول، أحسهُ مثلي يشمئز أن يلامس حباته وجوه من احتل بغداد ويبلل أرواحهم العفنة.
    العانس تموت ولن تخلفّ خلفها من يذرف الدمع عليها. لا أولاد. لا بنات. لا زوج يلزم الحداد. لا حبيب يتذكر الأطلال. عندما أخلو إلى نفسي، تغزو ذهني أفكار بشعة مصدرها النقر الذي تمارس الحاجة نسمة والداتي على رأسي: سرى، تزوجي واضمني المستقبل. من سيعتني بك عندما يهجم الشيب المفرق ويغزو البياض الشعر، لا تعتمدي على الإخوة، سينصرف كل واحد إلى شأنه وتبقين أسيرة الجدران والسقوف، المرأة منا تحتمي بالزوج من عاديات الزمن.
    يزداد نقرها عندما تنتقل إحدى العوانس إلى رحمة الله. وتنصب مجلس العزاء على روحي. العانس كائن منسي ولن يكون موضع اهتمام أحد. أصرخ في وجه أمي أنا لست عانسا وعنوسيتي حالة مؤقتة ستزول بزوال الاحتلال، هؤلاء الكلاب هم من يجعلوني أشعر أني عانس، عندما يرحلون سأسترد أنوثتي وشبابي وتمسكي بالحياة.
    تفجيرات الصالحية التي التهمت ألف شخصٍ بين قتيل وجريح ضاعف النقر على رأسي وأجج الشعور بالعنوسة فيّ. أحياناً، أحمد الله في سري على أني عانس فلن أخلفّ ورائي أبناءً للشوارع. أطفالاً أيتام يتسكعون في الشوارع ويتسولون لقمة الخبز من هذا وذاك.
    مئة وخمسون مجلس عزاء أقيم في الصالحية، وستمائة عائلة تقضي يومها في المستشفيات بانتظار شفاء الجرحى. ستمائة أب أو أم ينشجون بصمت، ومئة وخمسون أما وأبا والعشرات من الأقارب والأصدقاء يبكون فقد الأحبة. مئة وخمسون لافتة سوداء حطتّ على الجدران، ومائة وخمسون مسجدا خصص لاستقبال المعزين، العشرات أحياء تحت الأنقاض، والعشرات أموات تحت ركام البنايات التي تهاوت بفعل الانفجار.
    تهاتفني شادية من بلجيكا لتسألني هل أنتِ بخير، أنا ومحمود قلقان عليك. قلت اطمئني لم يحن أوان موتي بعد، اليوم تم تفجير وزارة العدل ومحافظة بغداد ووزارة البلديات، لم يصل القطار إلى محطتنا، احتمال بعد أسبوع أو أسابيع وربما أيام سيصلك نبأ مقتلي.
    الأحد دامٍ والأربعاء دامٍ في بغداد، والجمعة ستكون دامية لكني لازلت غير متأكدة أي الأيام ستكون دموية أكثر من سواها.
    سيتم تفجير كل الدوائر والشوارع والعمارات ومبازل المياه في بغداد، سيتم تفجير التماثيل ونافورات الماء ومحطات انتظار الحافلات ورياض الأطفال. قدر بغداد أن تفقد معالم جمالها وأنوثتها وترتدي الصبايا فيها السواد، قدرُ أمهاتنا أن تتشحن بالسواد من الرأس إلى أخمص القدمين.
    الموت قاب قوسين أو أدني منّا يا صديقتي. تودعني شادية بعد أن تحشو رأس أمي وتحرضهّا ضدي: دعها تستقيل ياخالة، صائب لازال ينتظرها هنا في بلجيكا، لا يزال يريدها زوجة على سنة الله ورسوله.
    يشبُّ الشجار مجدداً بيني وبين الوالدة على إثر كلام شادية. لن أستقيل وليذهب صائب إلى الجحيم، لن أترك بغداد تعاني وحدها من الدمار والأيام الداميات. لن نهجر جميعاً إلى بلجيكا وفنلندا والسويد هرباً من المفخخات واللاصقات والناسفات. هل سنترك بغداد مرتعاً للأشباح والأجانب والخنازير..؟
    بهتُ بسيارة شهاب تقف وأنا واقفة أمام الباب، أغادر البيت متوجهة إلى الدائرة. يلحّ عليّ أن اركب السيارة ويعرض عليّ توصيلي إلى الدائرة، أنا أرفض وهو يصرّ. عندي حديث مهم معك. أرجوك، هذه المرة فقط، نحن جيران. أمضي مسرعة والحق بالحافلة التي استقلها كل صباح. وأترك شهاب يسرح بمخيلته.
    فكرة ابن الجيران يحب بنت الجيران فكرة لم تكن تروق لي وأنا لازالت مثل ثمرة تنضج لتوها. ابن الجيران وغراميات سطح الدار وهمسات خلف الشبابيك أفكار بدتُ أسخر منها. معقدة تارة، ومتكبرة تارة أخرى، مغرورة و(شايف نفسها) تارة أخرى.
    يصلني رأي شهاب من خلال شقيقته نجلاء التي يرسلها مندوبة عنه لتحدثني ويحملها رسالة منه لي. شهاب يحبك منذ أن كنت طالبة في الرابع الإعدادي، أفسحي له المجال ليحدثك عن مشاعره. أنهرُ نجلاء وأعيد إليها رسالة شهاب. لا أفكر في الزواج. ليبحث عن عروس أخرى.
    أشعرٌ بفراغ كبير، الحب وحده يملأ فراغات القلب وزواياه لكني طلقتّ الحب حتى قبل أن ارتبط به، السأم سيدمرني، ولا شيء يزيحه عن قلبي، انظر إلى الأفق البعيد فلا أجد غير عتمة الاحتلال وظلامه الذي ينتشر في كل مكان حتى خلف جدران قلبي.

    كلشان البياتي
    كاتبة وصحفية عراقية

    Golahanalbayaty2005@yahoo.com
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الثلاثاء فبراير 23, 2010 11:50 pm

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (6)


    الدبابة الأميركية التي تنحدر برعب من جسر الجمهورية جعلتني أشعر بالعنوسة وحولتني إلى كائن جامد لا يشعر.
    ميدل ايست اونلاين
    بقلم: كلشان البياتي
    احتسي شاي العصر أمام التلفاز. أداعبٌ أزرار (الكنترول) بيدي، أقلب القنوات، قناة إثر قناة، أتوقفُ برهة على قناة تبث أغنية لناظم الغزالي فتطربني (عيرتني بالشيب وهو وقار)، تنتهي الأغنية وأنا لازلت أحركٌ السكر داخل القدح، يأخذني ناظم بعيدا بصوته الحنين ويوقظ حنيني للحب،للحياة.
    (الحياة بلا حب كشجرة بلا ثمر، شتاء بلا مطر) كلمات كنت أقراها في دفاتر شقيقي عمر عندما كان طالباً شقياً يغازل البنات وهو طالب في المرحلة المتوسطة. كل صفحة في دفتر الرياضيات أو الإحياء أو الكيمياء كانت تحوي حكماً في الحب والحياة. وخشية من سطوة أبي كان عمر يكتب رسائله الغرامية بين السطور؛ فاكتشفها حين تستعير نجمة ابنة الجيران دفاتر عمر وتنقل منها حلولاً وملاحظات يدونها نقلاً عن المدرس.
    أثبتُ الكنترول على شريط خبري، واقتنص أخبار اليوم قبل أن تشتاط دنيا مدللة البيت ودلوعة أمها غضباً، وتزجرني لأدير على قنوات تعرض أفلام كارتون بينما يعلو صوت الحاجة نسمة والداتي وهي تطالبني بالتوقف عند قناة دينية تعرض قارئ يرتلّ القرآن بصوت شجي.
    بحزن تسحب الشمس أذيالها الذهبية عن الأرض، يخيمُ الصمت وتهبط الكآبة من فوق سبع سموات، ولأن العانس كائن بلا أمل، بلا رتوش، بلا طموح، ترى كل ما حولها مظلما، معتما، تتعامل مع الأشياء بسوداوية، يقبل الغروب بثقل أشد وطأة من إحساس كائن أنه يعيش بلا أمل. الغروب وقت ممتع وجميل، العانس فقط ترى أن الغروب وقت قاتل لا يزيد إلا من عنوسة العانس.
    حديقة البيت تبدو هي الأخرى كئيبة، مظلمة رغم وجود العديد من مصابيح الإضاءة القوية، هناك (بلاجكتورات) اثنان على الأقل تنيران باحة الدار وخارجها. أجلسُ في أرجوحة الحديقة وأهزها مثل ثلة من الأطفال الأشقياء يقلبون بيت الجد (عاليها سافلها) حين يأتون إليها ضيوفاً يومي الخميس والجمعة.
    أغمض عيني فتنسل الخواطر إلى رأسي من كل حدب وصوب، مشهد يطغى على مشهد، يفور دمي مثل بركان هائج، والمشاهد تتوالى إلى رأسي، تلك الدبابة الأميركية التي تنحدر برعب من جسر الجمهورية هي التي جعلتني أشعر ليس بالعنوسة فقط، وإنما حولتني من أنثى جميلة فاتنة، مرحة إلى كائن جامد لا يشعر تارة، وحساس وعاطفي تارة أخرى، أبكي لأتفه الأشياء أحياناً وأحيانا أخرى أبدو مثل الصنم هُبل أو اللات أو العزى، لا يهزني موت الآلاف من حولي، حذرة تارة، أخال أني أشبه تلك العجوز الشمطاء الساحرة التي تتحذر من الفئران في كارتون سندباد، ولا أبالي تارة أخرى.
    أسمع وقع خطوات أقدام وصوت سيارة تقف أمام الباب يتبعه طرقات خفيفة بأصابع مرتعشة، أدنو من الباب بحذر، وقبل أن أصل تنفتح ويدلف شاب ملثم ويناولني قرص (سيدي) وينسحب على عجل، وقبل أن تنتظم دقات قلبي وأستعيد أنفاسي ينسحب وتنطلق السيارة بأعلى سرعتها.
    أشعر برجفة في يدي التي تمسك القرص، أقلبه على الوجهتين، وأنا أتساءل ما عساه أن يحوي، ولماذا يلقى إلى البيوت؟ هل ألقى إلى بيتي بالتحديد أم أنه ألقي إلى بيوت مجاورة؟ أشعر بخوف كبير، أخشى أن يراني أحد وأنا أمسك بقرص في يدي. يأخذني الوجوم وأترقب أطرافي، أضم القرص في جيب القميص وأحاول أن أخفيه عن أنظار عاصي المتشدد.
    تأخذني الظنون، أتصوره قرصا يحوي مشاهد خلاعية مثل تلك التي نسمع عنها هذه الأيام من أفواه الشباب ولاسيما أن (الموبايلات) انتشرت مثل انتشار الأمراض في أبدان العراقيين، وبشكل ملفت للنظر وبكاميرات رصينة وربما تم نقلها من شبكة الإنترنت التي اقتحمت أغلب البيوت، ونشرت فساداً ودمرت أخلاق وقيم الشباب.
    ثم تتوالى ظنون أخرى إلى رأسي: ربما يكون القرص حاوياً لفيلم ذبح، مشهد ذبَّاح بيده سكين ينحرُ شخصاً من أجل المال، مشاهد رصدت كثيراً بعد الاحتلال، حيث كثر (العلاسةّ) وعصابات الخطف والنهب.
    أتردد كثيراً قبل أن أقرر تشغيل القرص على الحاسبة أو رميه في سلة القمامة. وساوس تنشط وأخرى تموت. يستقر رأيي على فتح القرص بعد منتصف الليل حين يكون البيت هادئاً، وآوى الجميع إلى الفراش، أقرر أن أشاهده بمفردي وأتكدر وحدي قبل أن أشغل الآخرين به.
    خففت من إنارة البيت، أبقيتُ على مصباح واحد مشتعل في الصالة بينما أطفئت مصابيح الغرف غير المنشغلة، والداتي تطفئ مصباح غرفتها عندما تأوي إلى النوم، لكن غرفة دنيا تبقى مضيئة وأبقي على مصابيح الصالة مشتعلة أيضاً تحسباً لطوارئ الليل ولاسيما مداهمات جنود الاحتلال الفجائية، وأتاكد من وجود مصباح ذي شحن قرب رأسي لاستخدمه عند الضرورة.
    وضعت القرص في الحاسبة وأنا أقرأ المعوذات، كان الخوف قد استولى على قلبي منذ استلامي القرص من الشاب الملثم، لكن إحساساً بالطمأنينة كان قد انتابني فليس من المعقول أن يحوي القرص مشاهد مثيرة مثل تلك التي راودتني قبيل الليل.
    حين شرعت الحاسبة بالاستعداد لتشغيل القرص، كانت المفاجأة قد عقدت لساني، واستغربت كيف فاتني أن أتخيل أن يكون القرص حاوياً لعملية من عمليات المقاومة ضد القوات الأميركية، مشاهد كنت أترقبها على قنوات التلفاز، عبوة ناسفة تنفجر على رتل أميركي فتصيب آلية. آليتان من الرتل ومشهد آخر يصور شبابا ملثمين يعبئون هاوون منصوبا بالقذائف ثم يطلقونها باتجاه قاعدة أميركية تتصاعد منها اللسنة الدخان واللهب.
    كأن هالة من النور أضاءت قلبي المعتم وشعلة من الأمل قلب توازن الزمن بالكامل، عدت صغيرة عشرين عاما، طفلة مرحة تلهو فتقلب بيت الجد (عاليها سافلها)، انتابني شعور أن أخرج من شرنقة العنوسة التي حبست أنفاسي طيلة سبع سنوات من الاحتلال. لم تعد روحي صدئة تنخرها العنوسة واليأس.

    كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية ـ بغداد المحتلة / العانس

    3 أكتوبر/تشرين الأول 2009

    Golshanalbyaty2005@yahoo.com
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الخميس فبراير 25, 2010 6:00 am

    بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    من أدب المقاومة العراقية
    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

    (7) اغتيال عمر يوقظ عنوستي

    شبكة البصرة

    كلشان البياتي
    غرف البيت باردة ينقصها الدفء والحركة؛ ولأن الشتاء باغتننا هذه السنة بالبرد والمطر، تكاسلنا في تهيئة المدافئ النفطية التي تحتاج إلى إدامة بعد كل شتاء وشتاء؛ وبسبب رداءة مادة النفط، تصاب أغلب المدافئ بالعطل في حين تحتفظ المدافئ الزيتية والكهربائية برونقها وحيويتها لاشتغالها في ساعات محدودة تتوافر فيها الكهرباء.

    الظلام والبرد في ساعات باكرة من الصباح داخل بيت فخم، بسقوفه العالية وجدرانه المرتفعة، تشكلان ثنائية مكروهة في الشتاء، تزيدان من الإحساس بالعنوسة والوحدة.

    البردُ ينهش عظامي فأهرب إلى المطبخ، المكان الأكثر دفئاً حيث توقد والداتي إحدى المدافئ الكهربائية أثناء قيامها لأداء صلاة الفجر.

    الشاي يغلي في الإبريق ورائحته تتغربل في مساماتي وقبل أن أسكبه في القدح، أسمع طرقات خفيفة على الباب ما تلبث أن تعلو شيئا شيئاً. أضع البرقع على رأسي وأتسلل نحو الباب والبرد ينخر مفاصلي. دقائق الساعة كانت تقف عند السابعة إلا ربع حين غادرت باب المطبخ.

    الضباب كثيف في الخارج، والشمس احتجبت عن الشروق. من يكون الطارق.. من يجرؤ أن يخرج من بيته في هذا الوقت الباكر والبرد يشهر أنيابه؟

    طرقات الباب لا توحي أن يكون الطارق جنودا من قوات الاحتلال فقد إلفنا أسلوب طرقهم على الباب. يقلعون أبواب البيوت بقنابل صوتية قوتها تكفي لإحداث صمم في إحدى الأذنين. وليس الطارق قوات عراقية أمنية حذوا سلوك قوات الاحتلال.

    أقشعر بدني قبل أن أصل إلى الباب واستفسر عن هوية الطارق. لاحقني صوت أمي وأنا في طريقي إلى الباب: تأكدي من هوية الطارق قبل أن تفتحي.

    في بغداد التي كانت تسبح في بحر من الهدوء والأمن وكانت دار السلام قبل الاحتلال، صرنا نتردد في فتح الباب، تنهانا أمي عن فتح الباب قبل الاستفسار عن هوية الطارق، تحذر الشباب من فتح الباب وتمنع الأطفال من اللعب أمام الباب. نتوجس من الطرقات العالية والصراخ ومن سيارات تقف عند الباب. نتوجس من سيارة تحمل مجموعة شباب أشكالهم تبدو غريبة، صرنا نتحسس من قصات الشعر الغريبة والملابس المثيرة، وتنتابنا الهواجس والخيالات المرعبة.

    أخبار خطف الأطفال من أمام البيوت واغتيال الرجال أمام الأبواب، وفي العراء أجج الهلع والرعب في قلوب الناس.

    - من الطارق؟

    - أنا.

    صبي قصير القامة، خمنت عمره في التاسعة أو العاشرة، يرتدي خرقا بالية وثيابه الرثة ومظهره ـ وهو يقود امرأة طاعنة في السن، ضريرة ـ يدل على أنه متسول، جار عليه الزمن والاحتلال. لسع البرد والهم جسدي وهيمن الشعور بالعنوسة على قلبي من جديد.

    دفء المطبخ أغراني باحتساء الشاي الذي يفور فوق المدفأة وبدأت رائحته تتطاير في أرجاء البيت، وأنا أصب الشاي في القدح خرج صوت أم كلثوم من (الموبايل) وهي تشدو (فكروني) بصوتها العذب فأسرعت الخطي باتجاه غرفة النوم لجلب الجهاز خشية أن يوقظ نغمته العالية شقيقتي الصغيرة دنيا.

    كانت خالتي هي التي تتصل بي لتخبرني أن خالي مثني أصيب بجلطة دماغية وشلل نصفي نقل على أثرها إلى مستشفى اليرموك، وقالت أيضاً أن الجلطة حدثت بعد أن داهمت قوة أمنية - يرتدي عناصرها زي الشرطة - المنزل واعتقلت ابنه عمر، وطلبت مني إشعار والداتي بالموضوع لغرض زيارته بالمستشفى.

    خبران أحدهما أسوأ من الآخر وقعا في آن واحد. ترددت في إشعار والداتي بهذه الأخبار التي تقضم الظهر وتجلب الغم لكني وجدتها تقتحم الغرفة لتسألني مع من كنت أتحدث ولمَ تغير ملامح وجهي.

    نويت إشعارها بالخبر لكن بشكل متأنٍ خوفاً عليها من ارتفاع الضغط وعواقب صحية أخرى لكنها لم تمهلني. سحبت (الموبايل) من يدي بعد أن جاء اتصال آخر وتكلمت مع زوجة خالي رؤوف التي أرادت إخباري بالموضوع.

    الأخبار السيئة تنتشر بسرعة فائقة وهي أكثر من الأخبار المفرحة، في عراق اليوم قد تتلقى العشرات من الأخبار السيئة في اليوم الواحد، وتتلقى خبراً مفرحاً خلال شهر أو أشهر: اختطاف، اغتيال، اعتقال، انفجارات، فقدان – حوادث يومية لا يخلو أي يوم عراقي منها.

    بعد يومين فقط، يعثر ناهض على جثة عمر في الطب العدلي، يجلس ناهض وسامي ابن عمه وخالد ابن عمته أمام شاشة الحاسبة في دائرة الطب العدلي ويشاهدون صورة عمر وهو جثة هامدة، على وجهه وجسده آثار تعذيب، وجهه مشوه من التعذيب. يستلم ناهض الجثة برفقة أولاد عمه وعمته ويأتي به إلى البيت وسط استغراب ودهشة وألم الأقارب والأصدقاء الذين تقاطروا إلى البيت بعد زحف الخبر إلى بيوت الجميع حتى الذين يسكنون خارج العاصمة.

    الشعور بالعنوسة يعاودني وينغص عليّ حياتي، أعود سرى العانس مجدداً. تحكم أمي رأيها وتفرض علينا ارتداء الملابس السوداء أربعين يوماً حداداً على عمر الذي قتل وهو لا يزال شاب في عمر الورد.

    يرقد خالي مثنى في المستشفى أياماً معدودة وهو جثة هامدة لا يقوى على الحركة، الدموع تهبط من عينيه بغزارة ويبكي كما يبكي الطفل حين يجوع.

    حالته تسوء يوماً بعد الآخر، يراوده الشعور بالعجز والإخفاق، لقد سلب ابنه أمام عينيه ولم يتمكن من إنقاذه، يلوم نفسه لماذا قتل عمر ولماذا سماه عمر وبأي ذنب قتل عمر؟!

    أنا وحدي في البيت، أمي ودنيا وعاصي وزوجته اعتكفوا على زيارة بيت خالي للتخفيف من حالته، أعود من الدائرة، وأجد الأشباح وحدها تدور في غرف البيت، ويعبث السأم في محتويات الغرف، وطيف عمر يتجول في غرف البيت، يظهر في جدرانه، وزواياه، وفي السقوف، ويتراءى لي في زجاج معرض التحفيات، صغيراً رحلت يا عمر ولم يسعفك الوقت لتتمتع بشبابك. حرموك الحياة وسلبوا منك الشعور بالعنوسة والشيخوخة وأنت في ريعان الصبا.

    البرد والحزن ثنائيان مكروهان لا يجتمعان أبداً، وحين يجتمعان يولدان شعورا بالعنوسة والوحدة ويمنحان الألم والإحساس بالعجز والإخفاق.

    اخترت مكاناً بارزاً ووضعت عريشة الأوراق الخضراء الاصطناعية وأعدت تنسيق نباتات الزينة الأخرى في البيت. هذه النبتة تصلح هنا وهذه العريشة هناك.

    أجد نفسي مثل موظف حكومي حين يحال على التقاعد، يشغل نفسه بترتيب حديقة المنزل وزراعة النباتات فيها. خلال فترة أسبوع واحد، اقتنيت أكثر من نبتة ومتسلقة من محل ضباب لبيع الزهور الصناعية ووزعتها في غرف البيت بما فيها الممرات والصالة ووسط تعليقات أمي وسخريتها: انفقي الراتب على هذه النباتات الجامدة التي تفتقر إلى الحياة مثلك. هذه المتسلقات الخضر لن تحميك من مصاعب الحياة وقسوتها حين أموت أنا وتبقين أسيرة جدران صماء لا تمنحها المتسلقات الخضر سوى جمالٍ لن يدوم طويلاً.

    حين أنام، ينتابني أكثر من كابوس، أشهره نار ضخمة تأتي على كل ما في البيت من نباتات الزينة، تحترق المتسلقات الخضر والأزهار في السنادين، ويبقى البيت بدون أية نبتة، جدران صماء وأثاث جامد لا يتحرك من مكانه بتاتاً.

    كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية

    العراق – بغداد المحتلة ـ العانس

    10 تشرين الأول/اكتوبر 2009

    Golshanalbayaty2005@yahoo.com

    شبكة البصرة

    الخميس 30 ذو الحجة 1430 / 17 كانون الاول 2009

    يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الجمعة فبراير 26, 2010 1:14 am

    بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    من أدب المقاومة العراقية

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة

    (Cool تحرري من الإحساس بالعنوسة مرهون بتحرير الأرض

    شبكة البصرة

    كلشان البياتي
    ماتت سميرة وهي تلدُ طفلتها شموع، تشاجرت العمات والخالات وجدتاها مع بعضهنّ، كل واحدة تريد أن تأخذ شموع وتربيها مع أطفالها. أرنو إلى وجه شموع فينتابني رغبة ُملحة في البكاء. ألعن الزواج والرجال والاحتلال، شموع ستتربى يتيمة الأم، والأطفال يتيتمون حين تموت الأم وليس الأب.

    انظر في وجه شموع فألوم سميرة وأناجيها: ليتك بقيتي عانسَ ولم تحمل رحمك شموعاً يتيمة من الحب والحنان. لا أحد يدري لماذا ماتت سميرة؟ دخلت صالة الولادة لتلد فوهبت حياتها لشموع وغادرت بصمت وتركت خلفها أسئلة ودموعا وذكريات وقلوبا حائرة.

    ولأن دمع العانس يقف متوثباً على أعتاب العيينين، أية كلمة تجرح، أو موقف ُيغضب، يحفزهُ على الهطول، يتهادى مثل زخات المطر، مثل ريش النعام لأي سبب، تنساب الدموع من عيني كلما ألمح شموعا، وتمر إلى مخيلتي ضحكات سميرة ومزاحها اليومي معنا في الدائرة.

    لاح لي ضوء الفجر من بين الفجوات التي يشكلها الهواء بين شقي ستارتي النافذة. كانت الغرفة مظلمة، رتيبة، برودتها وحرارة الفراش أغويتانٍي على البقاء مستلقية في الفراش، استرجع أحلام الليل وذكريات سنوات انصرمت وسنة توشك أن تنصرم.

    ما آلمني في الماضي وأوجعني هو الذي يطفو إلى السطح دائماً، والحزن يسبق المسرة، والفرح يدوم ساعة، بينما الحزن يشق القلب وينغرس في الأحشاء، يدوم ما شاء الله من سنيين. صورة أبي وهو جثة هامدة يتأمل سقف الغرفة أول صورة ترد إلى ذاكرتي كلما أخلو إلى نفسي ويبدأ رأسي شغله الأزلي بلملمة الأحداث من هنا وهناك. لفظ أنفاسه الأخيرة وكنت حينها مراهقة لا أهتم إلا بتضفير شعري أو شده من الخلف مثل ذيل الحصان.



    أذكر أنّ أبي كان ديكتاتوراً فيما يخص شعورنا نحن البنات، ينهر أمي ويزجرها حين تبدي رائياً بقص شعر إحدانا ولاسيما إنا سرى مدللته. حين يراودني الشعور بأني عانس، وأن إحساسي بالعنوسة مرهونة بتحرير الأرض وزوال الاحتلال ورحيل هذه الأرتال التي تمرُّ من إمام ناظري مثل قطيع من الوز، يتماثل أمامي صورة بنت بضفيرتين، تخط بالطباشير مربعات على الأرض وأحيانا ترسمُ مربعاً يقود إلى مربع وتنتهي بمربعاتٍ اثنتين ومربع يرتبط بمربعات اثنتين، لتلعب بعد ذلك برفقة هند ودعاء وبتول – مراهقات المحلة – تلك اللعبة المحببة (التوكي) – لعبة البنات تحديداً.

    يُخيل لي أحياناً أن الاحتلال صادر اليوم الأرض التي كنا نخط فوقها المربعات ونلعب (التوكي) فلم يعد بإمكاننا أن نلعبها أو نعلم بناتنا أن يلعبن التوكي أو ينطن على الحبل ويقفزن بمرح الطفولة، نلهو كما يحلو لنا، غير عابئين بشيء. كل بنت يجب أن تلعب التوكي وتنط على الحبل، سمعتها من أمي وإنا صغيرة، كانت تصرفني بهذه الطريقة لتنشغل بأمور البيت.

    لم تكن أمي تقف على الباب وتصرخ بعلو صوتها: ادخلي الدار وأوصدي الباب، لا حمل لنا بدفع فدية للخاطفين. تقول أمي: أمام عتبة الدار، حيث تخط البنت مربعات التوكي، أصبحت الأرض محرمةّ، فلن تجرؤ أي أم أن تصرف بنتها عنها لتلعب التوكي أو تنط على الحبل أو تحشر مجموعة خرز ملونة داخل شق صغيرة في الأرض.

    ينبهني رقاص الساعة إلى اقتراب وقت النهوض للتهيئو للذهاب إلى الدائرة، أغادر السرير وشريط الذكريات يرافقني إلى المطبخ، اسكبُ الشاي في القدح، ارتدي أي شي من الخزانة، لم أعد أقف ساعات أمام الخزانة لاختيار ما ألبسه في الدوام. قد ارتدي التنورة نفسها أو السترة نفسها لمدة ثلاثة أيام أو أربعة. قبل الاحتلال، كنت أهيئ التنانير والقمصان من الليل، أنسقها قبل أن آوي إلى الفراش، وأنسقّ معها الإكسسوارات، لكن الوضع تغير كما تغير كل شيء في البلد، كأن الاحتلال جاء ليتحكم في كل شيء يخصنا. جاء لينسف الرغبات في دواخلنا.



    بعد انتصاف النهار، اصطحب والداتي إلى بيت جارتنا أم نبراس لتوديعهم قبل السفر. ابنتها شهد صديقتي منذ نعومة أظفارنا. درسنا معاً إلى أن انهينا الدراسة الجامعية. عائلة شهد ستهاجر إلى روما لتلحق بابنها البكر نبراس المقيم في روما منذ سنوات. حزمت شهد المسيحية حقائب سفرها وانضمت إلى سرب المهاجرين عن الوطن بحثاً عن الأمان المفقود في مكانٍ آخر يمنح الأمان أكثر من الوطن.

    عائلة أم نبراس جارتنا المسيحية أخذت حصتها من الإحزان والخوف والقلق. الضريبة التي صار إجباراً على كل عائلة عراقية أن تدفعها رغماً عنها، إن رضت أم أبت. مثلما كانت تدفع الإتاوات في عصر الإقطاعية. نالت حصتها من انفجار الملغماتّ. ليث شقيق شهد وسراج ابن عمها قتلا وهما يؤديان صلاة القداس في الكنيسة مع حشد من المسيحين. فقد ليث حياته وفقدت العائلة بأكملها الرغبة في الحياة والتواصل فقررت الرحيل هرباً من موت محتوم ينتظر الجميع. المسيحيون يُقتلون ويُهجرونّ من بيوتهم.

    فشلت في إقناع شهد بالعدول عن قرار الهجرة وفشلت في إقناعي بالرحيل معها. رحلت شهد وخلفتّ وراءها الذكريات فقط.

    - سنعود عندما تستعيد بغداد عافيتها وتعود دار الأمان.

    مثل الآلاف الذين هاجروا وكانت أمنية عودة قريبة تهيمن على مشاعر الجميع. رحلت شهد وفي قلبها رغبة العودة مجدداً إلى بغداد. بغداد الآمنة، بغداد دار السلام والأحلام وليس دار الرعب والشقاء والموت المحتوم.

    كنت وحيدة. هجرة شهد زادتني وحدة وعنوسة. كلما أغادر المنزل متوجهة إلى الدائر
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الجمعة فبراير 26, 2010 11:35 pm

    › يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (9)

    --------------------------------------------------------------------------------
    من أدب المقاومة العراقية
    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (9)
    12/1/2010



    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (9)
    مثل كل البنات المراهقات اللواتي يقبلنّ على الحياة والحب بشراهة، كنت في صباي أسلبُ قلوب الرجال وعقولهم. فاتنة أبهرٌ الناظر إليّ. أجمع قصائد الحب والحكم والمأثورات من القول من المجلات وأنقلها إلى الورق، ثم أطويها وأحتفظ بها في صندوق خشبي يحوي مفتاحاً.

    ومثل كل البنات العاشقات والهائمات على وجوههنّ بالسر، كنت أكتب خواطر الحب في دفتر، وكانت لي مفكرة ومذاكرات، أدونّ فيها تاريخ كل نظرة أو بسمة أو ضحكة وسببها، ووقتها، أدون المواعيد والأحداث، وكل كلمة حب تصل إلى أذنيَّ. أنقل نزيف قلبي وجرحه إلى الورق وأحتفظ به في الصندوق.

    ومثل كل الصبايا الفاتنات، أدهشني أول رجل التقيت به، وتبادلت معه نظرات الحب الأولى وابتسامة الحب الأولى.

    ومثل كل الصبايا، سمعت من كثيرين: أنتِ أول حب في حياتي، وأنتِ شمس حياتي وضوؤها وشمعة ليلي. كنت انبهر بأناقة رجل أو بابتسامته أو بشخصيته. أراهم في أحلامي وأتخيل أحدهم يمتطي جواداً أبيض، رآني فانبهر بي، ورأيته فصار فارس حياتي وصرت دقات قلبه ونبضه.

    كان كل شيء يسير بشكل طبيعي لا تشوبه الغرابة والشائبة، وقبل الاحتلال بساعات فقط، كنت لا أزال أتبادل رسائل الحب مع من أحب، انتظر مكالمته على الهاتف وينتظر مني اتصالا. الدبابات التي كانت تهبط من جسر الجمهورية، أصوات المراسلين الإعلاميين وهم ينقلون هول الكارثة التي حلت ببغداد، يصفون روعة الديمقراطية التي ستحل بحياتنا، ينقلون أوجاعنا والموت الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من حياتنا وموتنا وزوالنا.

    انقلب كل شيء، وانسكب الماء من القدح فاستحال جمعه مرة أخرى. فلم يعد هناك مواعيد ولا رسائل حب، صرت وكأنني لم أمارس الحب ولم يمر في حياتي أي رجل، ولم يكن هناك فارس يمتشق السيف ويمتطي الجواد الأبيض. وصرت كأنني لست سُرى التي تنبهر لطلعة رجل بهي، وتنال إعجاب أول رجل يلتقيها في أول لقاء.

    لم يمض أيام على الغزو، حتى أحرقت صندوق رسائل الحب ومفكرة الذكريات، أحرقتهما دون أن أعاود القراءة في تلك الرسائل أو أتلمس بأناملي الهدايا التي كانت تأتيني عربونة صداقة أو محبة.

    دوام الحال من ُالمحال، صرتُ سُرى العانس، لا أبالي بأشعار الحب، ولا بقصائد الهوى، لا أسهر على أفلام (عبدالحليم الحافظ) الرومانسية، ولا حتى أغاني أم كلثوم التي تذاع ليلاً لتنشر الحب والوئام. الحرب وأخبار الغزو وانتهاكات قوات الاحتلال حلت مكان الرومانسية في القلب. والرجل الأنيق في نظري يتحدد بموقفه من الاحتلال: أهو معه أم ضده؟!

    لمحتُ البوم صور العائلة موضوعاً فوق إحدى الطاولات الموجودة في غرفة الصالة، وتحديداً، في المكان الذي تجلسُ فيهُ أمي. قالت دنيا إن أمي هي التي سحبتها من أدراج المكتبة وكانت تتمعن في الصور: صورة صورة، وقالت إن دموعها سال على وجنتيها كالعادة عندما وقفت على صورة أبي المتوفي وصورة خالي الشهيد سرمد.

    دموع أمي لازالت تنهمر رغم مرور عشرين سنة على استشهاد خالي سرمد في حربنا مع إيران أبان الثمانينات. كان أصغر أشقائه، تخرج من الكلية العسكرية والتحق بالجيش برتبة ضابط، ترك خلفه زوجة وولد في العاشرة من العمر وبنتين كان عمر أكبرهنّ لا يتجاوز الخمس سنوات. تكهربت حياة العائلة، وكانت عزاء شقيقاته الأربع ـ إحداهن أمي ـ أن شقيقهم رحل شهيداً إلى جنات الخلد. والشهيدً حي ما عاشت البشرة على الأرض.

    كانت أمي تقضي النهار متوترة كلما تأملت الصور في الألبوم. تستعيد ذكريات الأمس حين كان الأموات إحياء يتراقصون بيننا. زجرتُ دنيا وأنّبتها مراراًً وصعقت في وجهها لماذا أخرجت الألبوم من أدراج مكتبتي، وكنت قد أخفيته تحاشياً للوقوع في يدي أمي. قالت إن أمي كانت تبحث في أدراج المكتبة وألحت عليّ في إعطائها الألبوم.

    ألتقطتُ الألبوم ورحت أتامل الصور، كانت لي أكثر من صورة، صورتي وأنا طفلة صغيرة لازلت أحبو على الأرض، وصورة عائلية تجمعني بأمي وأبي وشقيقاي عاصي وعمر وسهاد، وصورة أخرى وأنا جالسة في الحديقة التقطتها في العطلة المدرسية وأنا طالبة في الخامس الثانوي، وصور أخرى التقطتها مع صديقتي فاتن ونحن جالستين في حديقة كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة بغداد، وصورة وأنا مسترخية على الكنبة في صالة البيت، كانت بعد الاحتلال بسنة.

    اختفى الألبوم من الصالة حين غادرت لتغيير ثيابي في الغرفة، عندما عدت كانت أمي قد أخفته في غرفتها، تسللتُ خلسة إلى غرفة نومها مخافة أن تسبب صوت أقدامي في إيقاظها، وكانت قد غطت في نوم عميق وأصابعها تشبك غلاف الألبوم.

    صفحات الألبوم كانت تقف عند صورة لي، الصورة التي التقطتها قبل الاحتلال بسنتين في حفلة خطوبة نسمة ابنة خالي الشهيد سرمد الذي خطبها ابن عمتها المهندس صمد.

    قلبت صفحات الألبوم كانت هناك صورة المهندس نبيل، صديق صمد، تقدم لخطبتي بعد لقائنا في حفلة الخطوبة لكني اعتذرت منه لسبب لازلت أجهله. كنت في الرابعة والعشرين من العمر، شابة، مرحة، بشوشة، يتقدم الشباب لخطبتي فأتعامل بلامبالاة، من دون أن يكون هناك سبب مقنع للرفض.

    العمر يمضي إلى الزوال دائماً. والموت نهاية المطاف، لكل شيء نهاية، إننا نختم كل شيء في حياتنا، نختم الحياة ذاتها. ترد أمي على سؤال افتراضي يولد تلقائيا كلما اشتدد أوار الغزو وانتهاكاته. هل سيزول الاحتلال وتنقشع عن سماء حياتنا هذه السحب السوداء القاتمة. متى وكيف وهل ستنجلي هذه الليالي المظلمة الآسنة؟

    الوطن مُكبل بقيود الاحتلال، وأنا مكبلة بالإحساس بالعنوسة وانعدام الرغبة بالحياة والحب والأنوثة.

    تستطرد أمي في حديثها اليومي: إن الاستعمار لم يدم طويلاً في أراضينا، كنا أمة مستعمرة، شعوباً مكبلة بالقيود فتحررنا. ناضلنا حتى أشرقت شموس الاستقلال في سمائنا. تغوص أمي في أغوار التاريخ لتزرع في رأس عانس مثلي معنى أن لا تبقى العانس منا عانسا، فمن يهب الوطن مقاومين يغرسون في أحشائه بذرة التحرر؟

    إذا شعرت كل بناتنا بالعنوسة وأصبحن عانسات، صادات عن الرجال والزواج، فمن أين نأتي بالمقاومين لُنحرر ونتحرر؟
    المصدر: كلشان البياتي- ميدل ايست اونلاين
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار الإثنين مارس 01, 2010 4:29 am

    بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    من أدب المقاومة العراقية

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (11) المفخخات تسلب حياتنا من جهة،الأمراض من جهة، الموت يتربص بنا من كل الجهات

    شبكة البصرة

    كلشان البياتي
    حين تكون جالسة فوق المكتب، تغطُ هيام في سُبات صمتٍ عميق وتغرسُ رأسها في الأوراق التي أمامها، وتحنيها أرضاً عندما تكون واقفة، الخجلُ بادٍ على ملامحها وعينيها مغروقتين بالدموع؛ تحاول بشتى الوسائل أن لا تتلاقى أعيننا، تهربُ مني كما تهرب من الأخرياتُ. تكابر وتبلغ جهداً لتتجاوز المشكلة والنظراتُ المريبة نحوها.

    أسمعُ صوت هيام الصامت وهي تردد في سرها: شقيقك عميل فلا يحق لك إلاّ الخجل، ويا أيتها الأرضُ الواسعة، انشقي شقين وابلعيني. نحن مجتمع عشائري، الخطأ عندنا يعمُّ، حين يخطئ أحد أفراد الأسرة ويرتكبُ شناعة عظيمة مثل العمالة لقوات محتلة، فإنّ العشيرة قبل الأسرة تدفنُ رأسها في وحل العار والانكسار.

    في الحروب والغزوات، الأبناء والآباء هم الذين يرسمون خريطة العائلة ويختارون لها الموضع الذي يجب أن تكون فيه. فأماّ أن ترفع مكانة العائلة إلى أعلى القمم أو أن تنزل إلى أسفل الحضيض. الأشخاص أمثال صلاح، جعلوا العائلة تطأُ رأسها من الخجل. أشقاء صلاح يمشون في الطرقات وهم يحنون رأسهم من الخجل.

    مضت أيام ثلاثة وهيام صائمة عن الكلام، شفتاها مغلقتان على جرح كبير لن يندمل. أيام وهيام مضربة عن الحديث والضحك والنظرات الحرة، تأخذُ حقيبتها وتغادر الغرفة قبلي، ولم تعد تتصل بي.

    عمالة صلاح أحدثت شرخاً في العلاقة التي بنيناها لأكثر من عشرين عاماً. كنا صديقات بيت ودائرة، نتزاور ونتسامر لوقتٍ متأخرٍ من الليل. لم نفترق ولم نختلف. كنا نتفق دائماً ونترفع عن الخلافات مهما كانت كبيرة. تستعير مني قميصاً يعجبها وأستعير منها تنورة تعجبني. نتبادل الإكسسوارات والعطور وُحقائب اليد. كان هناك تصور من قبل الآخرين بأننا أخوات ولسنا صديقات. فرقتنا عمالة صلاح بل فرقنا الاحتلال بكل مخالبه وأنيابه المتوحشة، فقدتُ صديقتي المقربة.

    سألتني هبة – صديقتنا المشتركة – عن سر الخلاف الذي نشب بيننا وجعلتنا نفترق، وكنا موضع حسد، صداقتنا كانت أكبر من أي شيء كان ممكن أن يشتتنا. أجبتها أن هناك مشروعاً للزواج لم يكتمل بيني وبين شقيقها صلاح. ابتسمت هبة وقالت هجست بذلك، صلاح دائما هو لُب المشكلة في هذه العائلة. أنت لست أول امرأة ترفض الزواج من صلاح، بشرى ونبيلة وفادية ودعاء وكميلة وراجحة – رفضن صلاح ايضاً بسبب سمعته. لا أحد يرضى أن يُزوج ابنته من رجل يشتهر بعمالته لقوات الاحتلال، المدينة برمتها تعلم أن صلاح جاسوس فأي أب مجنون سيرضى أن يرمي ابنته في برميل النفايات أو في محرقة نار مستعرة.

    قالت هبة إن هيام نشطت منذ عامين لإيجاد زوجة لصلاح لكنها أخفقت، دولارات صلاح وشركاته لا تجلب له عروس. صلاح زوج لا يُشرف.

    اتصلت بي دنيا وأنا في السيارة وألحت عليّه في العودة مبكراً إلى البيت، هناك ضيوف بانتظاري. شرح لي سائق السيارة إننا نحتاج لربع ساعة لنصل إلى المنطقة المحددة إن لم يعقنا عائق. وصلنا إلى نقطة تتجمع فيها السيارات وتتلكأ في السير، ظننتُ رتلا أميركيا أو رتلا لقوة أمنية عراقية، لكني اكتشفتُ لاحقاً مفرزة أمنية نصبتها قوة عراقية، قطعت الطريق بحواجز مرور من مادة البلاستيك. عقَّب السائق على كلامي باللهجة البغدادية: رفعوا الجدران الكونكريتية من شوارع بغداد وجاءوا بالبلاستيك، يضحكون على الناس، (عبالهم إحنا قشامر مثلهم).

    استغرق قطع الطريق نصف ساعة، وصلت البيت وأنا منهكة. أمام باب المطبخ استقبلني سرمد وضياء وزهد أولاد رائدة بنت العم خليل، اعتادت رائدة على زيارة بيتنا والمكوث عندنا مع أطفالها ولاسيما عند سفر زوجها اثيل إلى سوريا لغرض جلب بضاعة لمحله التجاري في الشورجة. ورائدة هي الزوجة الثانية لاثيل.

    بعد الاحتلال، اكتشفت رائدة أن اثيل متزوج ولديه بنت وولد. تزوج اثيل من أرملة عندما كان ضابطاً في الجيش في أطراف البصرة. العلاقة متوترة بين رائدة واثيل والخلافات تتجدد بشكل مستمر. الأولاد هم حبل الوصل بينهما. تقول رائدة إنها أصبحت تفضل أن تبقى البنت عانسا على الزواج برجل هوايته تعدد الزوجات. نتجادل ونختلف في الآراء. تعدد الزوجات ليست حالة سلبية بل أمست حاجة اجتماعية في المجتمع، الحرب خلفت الكثير من الأرامل والعانسات اللواتي صرنا عالة على عوائلهنّ ومجتمعاتهنّ. تضحك رائدة وتصفني بالمجنونة.

    أدعو إلى الزواج وأنا عانس، أقول لها إني لست عانسا لكني أشعر بالعنوسة وعنوستي مسألة وقت لا أكثر. غداً تعود الأمور إلى طبيتعها. تتحرر بغداد وتشرق عليها شمس الحرية والاستقلال وتشرق على حياتي شمس الشبابية وتزهر روحي، سأعود صبية في ربيعها الخامس عشر، وسيقف (العرسان) طوابير أمام بيتي وسأتدلل، أرفض هذا وأعدُ ذاك.

    تبتسم رائدة وترفع كفها إلى السماء (يا رب) ثم تعود وتطالبني أن أكف عن التنظير أمام اثيل أو أمام الآخرين، فالرجال اليوم يقتنصون الفرص للزواج بالأخرى.

    اصطحبت رائدة في نزهة قصيرة خارج البيت مشياً على الإقدام. قطعنا شوطاً كبيراً من الشارع الرئيسي، كانت الشمس تسحب خيوطها الذهبية والظلام ينشر غطاءه الأسود الداكن ببطء. مساحات الظلام أقوى من مساحات الضوء والإنارة. عشرات المصابيح تنير مساحات صغيرة بحجم الثقب والشارع الطويل يبدو مظلماً أو هكذا تراءى لي. محل واحد مفتوح وعشرات أخرى مغلقة. ثلاثة محلات مفتوحة وعشرة أخرى مغلقة. سيارات تمرق مسرعة من الشارع، ثم تختفي جميع السيارات ويصبح الشارع مهجوراً، تمرح فوقها الأشباح. وتمر سيارة مفردة ثم تمر العشرات من السيارات والمركبات.

    دراجة نارية تجتاز الشارع، وعربة يجرها حصان، ثمة أشخاص يتمشون فوق الرصيف. هل هذه هي اليرموك يا رائدة؟ هل أصبحت مدينة الأشباح؟ أين اختفت أسراب الطيور، أين اختفى الناس؟

    تقول رائدة: الوقت أمسى ليلاً والناس أوصدت أبوابها على نفسها، انتهى وقت التسكع في الشوارع وحان وقت البيت. الخوف والرعب يسيطرانِ على الناس، حوادث الاغتيالات التي وقعت في هذا الحي أربكت الناس فلم يعد أحد يجرؤ على أن يبقى خارج بيته بعد السادسة مساءً. هنا كل شي يحصد أرواح الناس. سيارات ملغمّة وعبوات ناسفة ورصاص طائش. ومليشيات امتهنت القتل والاحتفال بدماء الناس.

    الأخبار الحزينة تتسلل دائماً وتخترق الأجواء، تفرض نفسها بسرعة مدهشة، تسري آثارها سريان السرطان في الجسم. اكتشف قيس زوجة عمتي منى بأنهُ مصاب بمرض) للوكيمياء). قالت لي أمي بعد أن عادت من زيارته في البيت، إنه يستعد لاستقبال الموت، يرفض أن يتعالج ويقول إن العلاج الكيميائي سيستنزف الأموال والوقت والجهد وسيؤخر الموت بضعة أيام أو أشهر. ولداه رباح ومنذر مصران على أخذه لخارج العراق لغرض العلاج.

    أخفيت دموعي أمام أمي لكني أطلقت العنان لها في غرفتي. جرت دموعي غزيراً أمام المرآة. احتشد أمامي كل شيء بسرعة برق. شعرتُ أني لا أشعر بالعنوسة بل صرت عانسا بالفعل، كبرت ألف عام في هذه اللحظة.

    السرطان سيسلب من العم قيس حياته، وسيسلب منّا رجلاً طيبا، كريم النفس، سيخسر هذا الوطن فرداً آخر. اللعنة على الاحتلال، المفخخات تسلب حياتنا من جهة، والأمراض من جهة، الموت يتربص بنا من كل الجهات. خواتم حياتنا أصبحت مقلقة وكئيبة لا تسر العدو ولا الصديق، كفكفت دموعي حين شعرت بخطوات أقدام تقترب من الغرفة.

    دخلت أمي وطلبت مني أن أهيئ نفسي للذهاب إلى بيت العم قيس لتوديعه، فقد طلب حضور جميع الأقارب لوجبة العشاء قائلاً إنه سيكون العشاء الأخير. ألححت على أمي أن لا أذهب لكنها كانت أكثر إلحاحاً، فالعم قيس خصني بالحضور.



    كلشان البياتي كاتبة وصحفية عراقية

    بغداد المحتلة العانس
    م.ابراهيم الجزار
    م.ابراهيم الجزار
    Admin


    عدد المساهمات : 600
    تاريخ التسجيل : 04/06/2009
    العمر : 43

    يوميات فتاة ليست عانس (1) Empty رد: يوميات فتاة ليست عانس (1)

    مُساهمة من طرف م.ابراهيم الجزار السبت مارس 06, 2010 4:04 am

    ثقافة وأدب
    من أدب المقاومة العراقية

    يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة (12)





    فتاة عراقية











    بقلم: كلشان البياتي

    كسر ـ طرقات متتابعة على الباب الرئيسي – رتابة الصمت الذي كان يخيم على أرجاء البيت، الجميع كانوا شبه غارقين في النوم، فالبرد القارس الذي هجم على بغداد نتيجة تساقط ثلوج كثيفة على مدن السليمانية واربيل، جعل الجميع قابعين في البيت، أسرى في الغرف، تحت البطانيات واللحف وقرب المدافئ.

    لم تكن طرقات منتظمة، كانت عشوائية، باغتتني وأنا أعدّ شاي العصر حيث اعتدنا أن نشربه مع قطع الجبن والمعجنات والكليجة التي تعدها أمي تحديداً لشاي هذا الوقت.

    استنجت أن طارق الباب ليس رجلاً وإنما صبياً صغيراً. خرجت بنفسي بعد أن تيقنت استحالة خروج أحد غيري، فالبرد أرغم الجميع على الاسترخاء تحت البطانيات.

    فتحت الباب، وإذا به حازم ابن الجيران يقف أمامي منتصباً وبيديه قنينة كولا سعة (لتران). قال لي وهو يتلعثم من البرد (خالة سُرى أمي تسلم عليج، تقول عدكم اشويه نفط)، أمهلتُ الصبي وتوجهت نحو المنزل لأتاكد من رقاد أمي، فهي تعشق نوم الظهيرة وتغط بالنوم بمجرد أن تضع رأسها على الوسادة، لأنها إذا كانت مستيقظة فلن أفلت من لسانها، ولن أتمكن من تعئبة القنينة بالنفط خلسةً لإعطائها إلى ابن الجيران، فبسبب صعوبة الحصول على النفط وندرته، وغلو ثمنه صار عسيراً على الكثيرين شراؤه، لذا تخوض أمي حرباً ضروساً للمحافظة على كمية النفط، فرضت قيوداً: ممنوع تشغيل مدافىء النفط عندما تكون الشمس مشرقة، وممنوع إشعالها إذا كانت الكهرباء متوفرة. وتحذرنا من مغبة هدره عند تعئبة المدافئ.

    باختصار، بعد الغزو، النفط في الشتاء أصبح بغلو الدم بل أغلى منه.

    عندما تأكدت من غفوتها تسللت خلسةً إلى (الحوش الجانبي) وعبأت القنينة للصبي الذي أخذها مني وهو يبتسم ملئ فمه راكضاً نحو البيت.

    وقبل أن أصل إلى المطبخ، توالت طرقات أخرى على الباب، كانت ميادة ابنة جارتنا سعاد. قالت لي وهي تلملم جسدها النحيل داخل ستارة نسائية كبيرة الحجم: خالة سُرى، ماما تسلم عليج، تقول بلكت تقرضني خمسين ألف لنهاية الشهر، مريضة تريد تروح للدكتور وبابا ماعند مصرف.

    ارتبكت واحترتُ بماذا أجيب، فقد كنت مٌُفلسة، ومنذ خمسة عشر يوماً وأنا لا أملك فلساً واحداً في حقيبتي، الموظف بعد الغزو، يضحك عشرة أيام، ويبكي ما تبقى من الشهر، فالراتب الذي يستلمه يكفي عشرة أيام ويعيش الأيام الباقية على الدين والآجر.

    استلمت الراتب، وكانت خمسمائة ألف دينار، سلمت نصفه لأمي، وسددت الباقي للمحلات التي أتسوق منها بعض السلع للبيت ودفعت أجور السيارة التي تقلني للدائرة برفقة هبة وراجحة وسلمى، وراجعت طبيبة أسنان، وحشوت سناً بخمسة وعشرين ألف دينار، خرجت من عندها وأنا أقسم بأغلاظ الإيمان أن لا أحشو سناً بعد اليوم. وحمدت الله إني عانس وتمنيت أن أبقى عانساً طوال حياتي. فلن أحتاج أن أقوم بصيانة سن بخمسة وعشرين ألف دينار وأبقى مفلسة بسبب حشوة سن.

    أنا اشعر بالعنوسة فلا أشغل بالي بأحد ولا أفكر أن أجذب أحداً نحوي. ولا أحظى باهتمام الآخرين. كائن شبه مهمل لا يثيرُ انتباه أحدا، لذا لن أهتم لو تآكلت أسناني واحداً بعد الآخر.

    ذهبت مخيلتي بعيداً تحديداً إلى ذلك اليوم الذي تورطت فيه ودخلت عيادة طبيبة أسنان خطأً، فقد ظننت أن عشرة الآلاف دنيار أو ثمانية الآلاف دنيار ستكون أجرة كافية لحشو الأسنان، لم يدر بخلدي أن مخالب الأطباء طال وصار يمزق أحشاءنا، صعقتُ والطبيبة تطالبني بثلاثة أضعاف المبلغ.

    كانت ميادة ذكية ففهمت أني لا أملك هذا المبلغ الآن. قبّلتها في وجنتيها وقلت لها: حبيبتي ميادة، سلميّ على ماما وأخبريها أني سأدبر لها المبلغ غداً وأنا عائدة من الدائرة.

    توقدت صورة هبة في ذهني فأوصلتني إلى إجابة سريعة منقذة، غداً سأقترض من هبة خمسين ألفا وأعطيها لأم ميادة، أدرك أنها مريضة ومصاريف علاجها مكلفة وزوجها عاجز عن تدبير أمور المعيشة لها ولتسعة أطفال أكبرهم ميادة، تبلغ العاشرة من العمر.

    أغلقت الباب وعدت لإعداد الشاي، استيقظت أمي، وسألتني عن الطارق على الباب، أنكرتُ حازم وأخبرتها أن ميادة ابنة جارتنا سعاد كانت تطلب حبّة (باراسيتول) لوالداتها المريضة. وسألتني عن عمر ولماذا تأخر وطالبتني أن اتصل به على الجوالّ فاعتذرت لأنّ جوالي بلا رصيد. أسمعتني الموشح اليومي (ما ادري وين تودون الرصيد).

    باغتنا عمر ونحن نتجادل، كان منزعجاً على غير عادته. اقترب من المدفأ ودفَّأ يديه، وقال لي: سأدخل الغرفة لأنام. ساءلتُه أمي إن كان قد تناول الغذاء في الخارج أم أقوم بتسخينه له فأجاب أنه لا يريد، ليس جائعاً. سألت عمر عن سبب انزعاجه، فلم يجبني، لكنه أجاب بعد إلحاحٍ شديد.

    قال: عندما ترجل من الحافلة مع صديقه وسام، حدث شيء بشع أمامهما. لقد ترجل أربعة مسلحين ـ تقلهم سيارة نوع أوبل ـ من السيارة وأطلقوا النار على شخص كان يتمشى باتجاه بيته فتوفى في الحال، ثم لاذ المسلحون بالفرار.

    وقال عمر: احتشد الناس واتصلوا بالشرطة وجاءت دوريتان إلى مكان الحادث وعاينوا الجثة، وبعد أن تأكدوا من استشهاده تركوا الجثة ملقاة علي الأرض وغادروا المكان دون أن يتخذوا أي إجراء.

    قصص القتل والخطف في بغداد أصبحت روتينية لا تثير الدهشة والاستغراب. الموت وحده أصبح لا ُيدهش في هذا البلد. الموت المفرد هو ما يدهش. نسترق السمع إلى نداءات المساجد التي صارت تذيع الموتى بالجملة. وفي كل جدار من جدران بغداد، هناك أكثر من لافتة سوداء. لافتة ترفع ولافتة تنزل مكانها.

    طلب مني عمر أن أغسل له بنطلونا كان يرتديه مع القميص لأنهما اتسخا حين ركض مع صديقه وسام باتجاه الرجل المقتول. وأنا أضع الملابس المتسخة في الغسالة، عثرت في جيب القميص على أوراق، كان من بينها هوية للأحوال المدنية فيها صورة عمر لكنه باسم آخر هو حيدر فرحان. انصعقت حين اكتشفت أن عمر يحمل هوية مزورة في جيب قميصه، هرولت نحو غرفته وكان قد غطّ في نومٍ عميق، لقيت شقيقي عاصي في الصالة، فأريته الهوية المزورة. تصورته سيغضب، لكنه ابتسم وأعاد لي الهوية. قال لي: ماذا تريدون، يمشي في بغداد واسمه عمر.

    وقال: أغلب العراقيين يحملون هويات مزورة في جيوبهم اتقاء شر المليشيات التي أخذت تقتل الناس على الهوية. ومناطق بغداد تقسمت على الأسماء. عمر لا يتمشى في شوارع مدينة الثورة، وكرار لم يزر الأعظمية منذ الاحتلال. لن تعثري على بنت اسمها عائشة في بغداد، ولا على زهراء أو أم البنين، وعلي اختفى من شوارع بغداد وكذلك عثمان والحسن والعباس ومسلم. قبِّلي وجنتي أمك لأنها سمتك سُرى وليس حفصة.

    تركني عاصي قائلاً لي: خيةّ، تحتاجين سنوات بعمر الغزو لتفهمي ما الذي حلّ ويحلّ ببغداد.





    كلشان البياتي ـ صحفية وكاتبة عراقية

    بغداد المحتلة العانس

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 7:45 am